فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن أسعد بالرضى نسي التحفظ وإن ناله الخوف شغله الحزن، وإن أصابته مصيبة قصمه الجزع، وإن أفاد مالًا أطغاه الغنى، وإن عضته فاقة شغله البلاء، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف، وإن أفرط به الشبع كظته البطنة، فكل تقصير به مضر.
وكل إفراط له مفسد.
قال: فقام إليه رجل ممن كان شهد معه الجمل، فقال: يا أمير المؤمنين؟ أخبرنا عن القدر، فقال: بحر عميق فلا تلجه، فقال: يا أمير المؤمنين! أخبرنا عن القدر، فقال بيت مظلم فلا تدخله، فقال: يا أمير المؤمنين! أخبرنا عن القدر، فقال: سر الله فلا تتكلفه، فقال: يا أمير المؤمنين! أخبرنا عن القدر، فقال: أما إذا أبيت فإنه أمر بين أمرين، لا جبر ولا تفويض، فقال: يا أمير المؤمنين! إن فلانًا يقول بالاستطاعة وهو حاضرك، فقال: عليّ به! فأقاموه، فلما رآه سل من سيفه قدر أربع أصابع فقال: الاستطاعة تملكها مع الله أو من دون الله؟ وإياك أن تقول أحدهما فترتد فأضرب عنقك! فقال: فما أقول يا أمير المؤمنين؟ قال: قل: أملكها بالله الذي إن شاء ملكنيها.
وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة الحج عند: {إن الله يفعل ما يشاء} [الحج: 18] ما يتصل بهذا.
ولما قصر الأمر كله عليه سبحانه، وجب رد كل أمر إليه، وقصر النظر عليه، فقال منبهًا على ذلك: {عليه} أي على الله وحده الذي ليس الحكم إلا له: {توكلت} أي جعلته وكيلي فرضيت بكل ما يفعله: {وعليه} أي وحده: {فليتوكل المتوكلون} أي الثابتون في باب التوكل، فإن ذلك من أعظم الواجبات، من فعله فاز، ومن أغفله خاب، ثم إنه سبحانه صدق يعقوب فيما قال، مؤكدًا لما أشار إلى اعتقاده، فقال: {ولما} وعطفه بالواو يدل على أنهم ما أسرعوا الكرة في هذه المرة خوفًا من أن يقول لهم: لم يفرغ ما عندكم حتى تضطروا إلى الاستبدال به، والزمان زمان رفق، لا زمان تبسط: {دخلوا} أي أخوة يوسف عليه الصلاة والسلام عند وصولهم إلى مصر: {من حيث أمرهم} أي به: {أبوهم} من أبواب متفرقة، قالوا: وكان لمصر أربعة أبواب: {ما كان} ذلك الدخول: {يغني} أي يدفع ويجزي: {عنهم من الله} أي الملك الأعلى الذي لاراد لأمره، وأعرق في النفي فقال: {من شيء} كما تقدم من قول يعقوب عليه الصلاة والسلام: {إلا حاجة} أي شيئًا غير أتم حاجة: {في نفس يعقوب} وهو الدخول على ما أمر به شفقة عليهم: {قضاها} يعقوب، وأبرزها من نفسه إلى أولاده، فعملوا فيها بمراده فأغنى عنهم ذلك الإخلاص من عقوق أبيهم فقط، فإنهم ابتلوا في هذه السفرة بأمر عظيم لم يجدوا منه خلاصًا، وهو نسبهم إلى السرقة، وأسر أخيهم منهم، قال أبو حيان: وفيه حجة لمن زعم أن لما حرف وجوب لوجوب، لا ظرف زمان بمعنى حين، إذا لو كان ظرف زمان ما جاز أن يكون معمولًا لما بعد ما النافية- انتهى.
ولما كان ذلك ربما أوهم أنه لا فائدة في الاحيتاط، أشار تعالى إلى رده بمدح يعقوب عليه الصلاة والسلام، حثًا على الاقتداء به في التسبب مع اعتقاده أن الأمر بيد الله فقال: {وإنه} أي يعقوب عليه الصلاة والسلام مع أمره لبنيه بذلك: {لذو علم} أي معرفة بالحكمين: حكم التكليف، وحكم التقدير، واطلاع على الكونين عظيم: {لما} أي للذي: {علمناه} إياه من أصول الدين وفروعه، ويجوز أن يكون المعنى: لذو علم لأجل تعليمنا أياه.
فاقتدوا به في الاحتياط في تعاطي الأسباب، مع اعتقاد أنه لا أثر لها إلا أن أمضاها الواحد القهار، فبهذا التقدير يتبين أن الاستثناء متصل، وفائدة إبرازه- في صورة الأستثناء عند من جعله منقطعًا- الإشارة إلى تعظيم يعقوب عليه الصلاة والسلام، وأنه جدير بأن يكون ما يأمر به مغنيًا، لأنه من أمر الله، فلو كان كل شيء يغني من قدر الله لأغنى ما أشار به، وإنما فسرت يغنى بيدفع لأن مادة غنى- بأي ترتيب كان- تدور على الإقامة، فيكون أغنى للسلب، وهو معنى للدفع، بيانه أن غنى بمعنى أقام، وعاش، ولقي، ومغنى الدار: موضع الحلول، ويلزم من الإقامة الكفاية والتمول، لأن الفقير منزعج مضطرب، والغني- كإلى: التزوج، وإذا فتح مد، والاسم الغنية- بالضم، وذلك لأن التزوج لازم الإقامة، والغانية: المرأة تُطلَب ولا تَطلُب، أو الغنية بحسنها عن الزينة، أو الشابة المتزوجة، أو الشابة العفيفة ذات زوج كانت أم لا، ومثلها يلزم المنزل ويقصر في الخيام، وأغنى عنه غناء فلان: ناب عنه منابه وأجزأ مجزأه، وحقيقته جعل إقامة كذا متجاوزة عنه، فالمفعول محذوف، فإذا قال مثلًا: فلان أغنى عني في الحرب، كان المعنى: أغنى عني ضرب الأبطال أو شدة الحرب، أي أزال إقامة ذلك عني فجعله متجاوزًا، ولا شك أن معنى ذلك: دفعه عني، وكذا كل ما كان من ذلك، وما فيه غناء ذاك، أي إقامته والاضطلاع به، ويلزم أيضًا- من الإقامة التي هي المدار والكفاية التي هي سببها- الغناءُ- بالكسر والمد، وهو التطريب بالصوت، والغناء أيضًا: الرمل- لإقامته، وغنى بالمرأة: تغزل، أي نظم فيها الغزل، وغنى بزيد: مدحه أو هجاه- من لوازم الإقامة والكفاية، ومنه غنى الحمام: صوت؛ ونغى- كرمى: تكلم بكلام يفهم- لأن ذلك يسكن الخاطر عن القلق، ومنه المناغاة- وهي تكليم الصبي بما يهوى، ونغيت إليه نغية، أي ألقيت إليه كلمة، والنغية- كالنغمة: أول الخبر قبل أن تستثبته، من تسمية الجزء باسم الكل، وناغاه: داناه، ومنه الموج يناغي السماء- إذا ارتفع، وناغاه: باراه أي عارضه، والمرأة: غازلها، أي حادثها- كل ذلك من لوازم الإقامة؛ والغين: حرف هجاء مجهور مستعل- كأنها لقوتها مقيمة في مخرجها غير متزعزعة عنه كالراء والحروف الهوائية وغيرها، والغين: العطش- لأنه الأصل لاقتضاء الحرارة له والريّ حادث، والغين: الغيم- لإقامته في الهواء، والغينة: أرض- لأنها موضع الإقامة، والأشجار الملتفة بلا ماء، هي أيضًا موضع لذلك، لأنها ظليلة ولا ماء بأرضها يمنع من الانتفاع بشيء من ظلها، والغيناء: الخضراء من الشجر، وبئر، وبالقصر: قنة ثبير من الأثبرة السبعة- لأن ذلك كله موضع للإقامة، ولعل قنة هذا الجبل كثيرة الشجر فترجع إلى الشجرة، والأغين: الطويل- إما تشبيه بقنة الجبل، أو بالشجرة، والغانة: حلقة رأس الوتر في القوس، وغين على قلبه: غطى عليه أي أقام عليه ساترًا له فصار كالسماء بالنسبة إلى الغيم، ومنه غين عليه- إذا تغشته الشهوة وألبس أو غشي عليه، أو أحاط به الرين وهو الطبع والدنس، والغينة- بالكسر: الصديد وما سل من الميت- كأنه من سلب الإقامة، وكذا الغين بالكسر- لموضع كثير الحمى، وغانت نفسي تغين: غثت، والإبل: غامت، أي حصل لها داء كالقلاب غير أنه لا يقتل- انتهى.
ولما كان قد يظن أن كل أحد يكون كذلك، أي يعلم ما علمه، نفى ذلك سبحانه بقوله: {ولكن أكثر الناس} أي لأجل ما لهم من الاضطراب: {لا يعلمون} أي ليسوا بذوي علم لما علمناهم لإعراضهم عنه واستفرغ قواهم في الاهتمام بما وقع التكفل لهم به من أحوال الدنيا، ومغالبة فطرهم القويمة السليمة بردها إلى ما تدعو إليه الحظوظ والشهوات حتى لا يكون فيها طب مخلوق. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ}
اعلم أن أبناء يعقوب لما عزموا على الخروج إلى مصر.
وكانوا موصوفين بالكمال والجمال وأبناء رجل واحد قال لهم: {لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ} وفيه قولان: الأول: وهو قول جمهور المفسرين أنه خاف من العين عليهم ولنا هاهنا مقامان.
المقام الأول: إثبات أن العين حق والذي يدل عليه وجوه: الأول: إطباق المتقدمين من المفسرين على أن المراد من هذه الآية ذلك.
والثاني: ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعوذ الحسن والحسين فيقول: «أعيذ كما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة» ويقول هكذا كان يعوذ إبراهيم إسمعيل وإسحق صلوات الله عليهم.
والثالث: ما روى عبادة بن الصامت قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول النهار فرأيته شديد الوجع ثم عدت إليه آخر النهار فرأيته معافى فقال: «إن جبريل عليه السلام أتاني فرقاني فقال: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن كل عين وحاسد الله يشفيك» قال فأفقت، والرابع: روي أن بني جعفر ابن أبي طالب كانوا غلمنًا بيضًا فقالت أسماء: يا رسول الله إن العين إليهم سريعة أفأسترقي لهم من العين فقال لها نعم.
والخامس: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت أم سلمة وعندها صبي يشتكي فقالوا: يا رسول الله أصابته العين فقال أفلا تسترقون له من العين.
والسادس: قوله عليه السلام: «العين حق ولو كان شيء يسبق القدر لسبقت العين القدر» والسابع: قالت عائشة رضي الله عنها: كن يأمر العائن أن يتوضأ ثم يغسل منه المعين الذي أصيب بالعين.
المقام الثاني: في الكشف عن ماهيته فنقول: إن أبا علي الجبائي أنكر هذا المعنى إنكارًا بليغًا ولم يذكر في إنكاره شبهة فضلًا عن حجة، وأما الذين اعترفوا به وأقروا بوجوده فقد ذكروا فيه وجوهًا: الأول: قال الحافظ: إنه يمتد من العين أجزاء فتصل بالشخص المستحسن فتؤثر فيه وتسري فيه كتأثير اللسع والسم والنار، وإن كان مخالفًا في جهة التأثير لهذه الأشياء قال القاضي: وهذا ضعيف لأنه لو كان الأمر كما قال، لوجب أن يؤثر في الشخص الذي لا يستحسن كتأثيره في المستحسن واعلم أن هذا الاعتراض ضعيف وذلك لأنه إذا استحسن شيئًا فقد يحب بقاءه كما إذا استحسن ولد نفسه وبستان نفسه، وقد يكره بقاءه أيضًا كما إذا أحس الحاسد بشيء حصل لعدوه، فإن كان الأول فإنه يحصل له عند ذلك الاستحسان خوف شديد من زواله والخوف الشديد يوجب انحصار الروح في داخل القلب فحينئذ يسخن القلب والروح جدًا، ويحصل في الروح الباصرة كيفية قوية مسخنة وإن كان الثاني: فإنه يحصل عند ذلك الاستحسان حسد شديد وحزن عظيم بسبب حصول تلك النعمة لعدوه.
والحزن أيضًا يوجب انحصار الروح في داخل القلب ويحصل فيه سخونة شديدة، فثبت أن عند الاستحسان القوي تسخن الروح جدًا فيسخن شعاع العين بخلاف ما إذا لم يستحسن فإنه لا تحصل هذه السخونة فظهر الفرق بين الصورتين، ولهذا السبب أمر الرسول صلى الله عليه وسلم العائن بالوضوء ومن أصابته العين بالاغتسال.
الوجه الثاني: قال أبو هاشم وأبو القاسم البلخي إنه لا يمتنع أن تكون العين حقًا، ويكون معناه أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به استحسانًا كان المصلحة له في تكليفه أن يغير الله ذلك الشخص وذلك الشيء حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف متعلقًا به، فهذا المعنى غير ممتنع، ثم لا يبعد أيضًا أنه لو ذكر ربه عند تلك الحالة وعدل عن الإعجاب وسأل ربه تقية ذلك، فعنده تتعين المصلحة ولما كانت هذه العادة مطردة لا جرم قيل العين حق.
الوجه الثالث: وهو قول الحكماء قالوا هذا الكلام مبني على مقدمة وهي أنه ليس من شرط المؤثر أن يكون تأثيره بحسب هذه الكيفيات المحسوسة أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة بل قد يكون التأثير نفسانيًا محضًا، ولا يكون للقوى الجسمانية بها تعلق والذي يدل عليه أن اللوح الذي يكون قليل العرض إذا كان موضوعًا على الأرض، قدر الإنسان على المشي عليه ولو كان موضوعًا فيما بين جدارين عاليين لعجز الإنسان على المشي عليه، وما ذاك إلا لأن خوفه من السقوط منه يوجب سقوطه، فعلمنا أن التأثيرات النفسانية موجودة، وأيضًا أن الإنسان إذا تصور كون فلان مؤذيًا له حصل في قلبه غضب، ويسخن مزاجه جدًا فمبدأ تلك السخونة ليس إلا ذلك التصور النفساني، ولأن مبدأ الحركات البدنية ليس إلا التصورات النفسانية، فلما ثبت أن تصور النفس يوجب تغير بدنه الخاص لم يبعد أيضًا أن يكون بعض النفوس بحيث تتعدى تأثيراتها إلى سائر الأبدان.
فثبت أنه لا يمتنع في العقل كون النفس مؤثرة في سائر الأبدان وأيضًا جواهر النفوس المختلفة بالماهية فلا يمتنع أن يكون بعض النفوس بحيث يؤثر في تغيير بدن حيوان آخر بشرط أن يراه ويتعجب منه، فثبت أن هذا المعنى أمر محتمل والتجارب من الزمن الأقدم ساعدت عليه والنفوس النبوية نطقت به فعنده لا يبقى في وقوعه شك.
وإذا ثبت هذا ثبت أن الذي أطبق عليه المتقدمون من المفسرين في تفسير هذه الآية بإصابة العين كلام حق لا يمكن رده.
القول الثاني: وهو قول أبي علي الجبائي: أن أبناء يعقوب اشتهروا بمصر وتحدث الناس بهم وبحسهم وكمالهم.
فقال: {لاَ تَدْخُلُواْ} تلك المدينة: {مِن بَابٍ وَاحِدٍ} على ما أنتم عليه من العدد والهيئة فلم يأمن عليهم حسد الناس أو يقال: لم يأمن عليهم أن يخافهم الملك الأعظم على ملكه فيحبسهم، واعلم أن هذا الوجه محتمل لا إنكار فيه إلا أن القول الأول قد بينا أنه لا امتناع فيه بحسب العقل والمفسرون أطبقوا عليه فوجب المصير إليه، ونقل عن الحسن أنه قال: خاف عليهم العين، فقال: {لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ} ثم رجع إلى علمه وقال: {وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ الله مِن شَئ} وعرف أن العين ليست بشيء وكان قتادة يفسر الآية بإصابة العين ويقول: ليس في قوله: {وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ الله مِن شَئ} إبطال له لأن العين وإن صح فالله قادر على دفع أثره.
القول الثالث: أنه عليه السلام كان عالمًا بأن ملك مصر هو ولده يوسف إلا أن الله تعالى ما أذن له في إظهار ذلك فلما بعث أبناءه إليه قال: {لا تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ} وكان غرضه أن يصل بنيامين إلى يوسف في وقت الخلوة، وهذا قول إبراهيم النخعي، فأما قوله: {وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ الله مِن شَئ} فاعلم أن الإنسان مأمور بأن يراعي الأسباب المعتبرة في هذا العالم ومأمور أيضًا بأن يعتقد ويجزم بأنه لا يصل إليه إلا ما قدره الله تعالى وأن الحذر لا ينجي من القدر، فإن الإنسان مأمور بأن يحذر عن الأشياء المهلكة، والأغذية الضارة، ويسعى في تحصيل المنافع ودفع المضار بقدر الإمكان ثم إنه مع ذلك ينبغي أن يكون جازمًا بأنه لا يصل إليه إلا ما قدره الله ولا يحصل في الوجود إلا ما أراده الله فقوله عليه السلام: {لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ} فهو إشارة إلى رعاية الأسباب المعتبرة في هذا العالم، وقوله: {وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ الله مِن شَئ} إشارة إلى عدم الالتفات إلى الأسباب وإلى التوحيد المحض والبراءة عن كل شيء سوء الله تعالى وقول القائل: كيف السبيل إلى الجمع بين هذين القولين، فهذا السؤال غير مختص به، وذلك لأنه لا نزاع في أنه لابد من إقامة الطاعات، والاحتراز عن المعاصي والسيئات مع أنا نعتقد أن السعيد من سعد في بطن أمه، وأن الشقي من شقي في بطن أمه فكذا هاهنا نأكل ونشرب ونحترز عن السموم وعن الدخول في النار مع أن الموت والحياة لا يحصلان إلا بتقدير الله تعالى، فكذا ههنا، فظهر أن هذا السؤال غير مختص بهذا المقام، بل هو بحث عن سر مسألة الجبر والقدر، بل الحق أن العبد يجب عليه أن يسعى بأقصى الجهد والقدرة، وبعد ذلك السعي البليغ والجد الجهيد فإنه يعلم أن كل ما يدخل في الوجود فلابد وأن يكون بقضاء الله تعالى ومشيئته وسابق حكمه وحكمته ثم إنه تعالى أكد هذا المعنى، فقال: {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ}.
واعلم أن هذا من أدل الدلائل على صحة قولنا في القضاء والقدر، وذلك لأن الحكم عبارة عن الإلزام والمنع من النقيض وسميت حكمة الدابة بهذا الاسم، لأنها تمنع الدابة عن الحركات الفاسدة والحكم إنما سمي حكمًا لأنه يقتضي ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر بحيث يصير الطرف الآخر ممتنع الحصول، فبين تعالى أن الحكم بهذا التفسير ليس إلا لله سبحانه وتعالى، وذلك يدل على أن جميع الممكنات مستندة إلى قضائه وقدره ومشيئته وحكمه، إما بغير واسطة وإما بواسطة ثم قال: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} ومعناه أنه لما ثبت أن الكل من الله ثبت أنه لا توكل إلا على الله وأن الرغبة ليست إلا في رجحان وجود الممكنات على عدمها وذلك الرجحان المانع عن النقيض هو الحكم، وثبت بالبرهان أنه لا حكم إلا لله فلزم القطع بأن حصول كل الخيرات ودفع كل الآفات من الله، ويوجب أنه لا توكل إلا على الله فهذا مقام شريف عال ونحن قد أشرنا إلى ما هو البرهان الحق فيه والشيخ أبو حامد الغزالي رحمه الله أطنب في تقرير هذا المعنى في كتاب التوكل من كتاب إحياء علوم الدين فمن أراد الاستقصاء فيه فليطالع ذلك الكتاب.